الخبرية ـ الرباط
أكد رئيس الحكومة، السيد سعد الدين العثماني، الثلاثاء، أن المملكة المغربية تؤمن، وفق رؤية جلالة الملك محمد السادس، بدبلوماسية متعددة الأطراف، متجددة وفعالة، وفق مقاربة استباقية ومتفاعلة مع القضايا الشاملة على أساس من التوازن والواقعية والنجاعة.
وقال السيد العثماني، في كلمة ألقاها باسم الوفد المغربي خلال جلسة المناقشة العامة للجمعية العامة الـ74 للأمم المتحدة، إن هذه المقاربة مكنت المغرب من الانخراط الفعال في مواجهة التحديات الكونية التي تشغل العالم اليوم، من خلال مبادرات هادفة، مؤكدا أن التحديات الحالية تتجاوز قدرة أي دولة من الدول لوحدها “فالتغيرات المناخية، والتنمية المستدامة، وتدفقات الهجرة، والتحديات الأمنية وخصوصا الإرهاب، والتطرف العنيف، والاتجار بالبشر، كلها تحتاج إلى عمل تشاركي في إطار مقاربات متعددة الأطراف”.
واعتبر رئيس الحكومة أن النقاش حول مزايا العمل متعدد الأطراف أصبح متجاوزا وضربا من إهدار الطاقات، داعيا الى الانكباب على التفكير في ترتيب أولويات هذا العمل، وابتكار سبل مبدعة لتطوير وتحصين آلياته ضد الإكراهات التي تعترضه وضخ رؤية متجددة لفائدة تطويره.
وأكد رئيس الحكومة، الذي يرأس بتكليف من جلالة الملك، الوفد المغربي المشارك في أشغال الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة، أن المملكة تطمح إلى نظام متجدد ومدعِم لآليات عمل منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، “نظام مضبوط وناجع، من أجل تنسيق أكثر شمولية وأدق تناغما مع عصرنا وتحدياته، ومن أجل ضمان مستقبل أفضل للبشرية”.
وشدد، في هذا الإطار، على أن العمل متعدد الأطراف الذي ينشده المغرب ينبغي أن يضمن للقارة الإفريقية المكانة التي تستحقها كفاعل على المستوى الدولي، والدفاع عن نديتها مع غيرها من الفاعلين الدوليين.
وأشار الى أن جلالة الملك محمد السادس ما فتئ ينادي من منبر الأمم المتحدة بإيلاء أهمية قصوى لنهضة إفريقيا، بما تملكه من طموحات، وتتوفر عليه من فرص، مبرزا أن عودة المغرب لأسرته المؤسساتية، الاتحاد الإفريقي، في 30 ینایر 2017، كانت بمثابة تتويج منطقي لهذه القناعة، وللشراكات الثنائية والإقليمية التي نسجها المغرب عبر عقود من الزمان مع محيطه الإفريقي في إطار تعاون جنوب-جنوب، مثمر، وفاعل، ومتضامن، وهي الشراكات، يقول السيد العثماني، التي شملت الميادين الاقتصادية والتنموية والثقافية والدينية والبيئية ومحاربة التهديدات الأمنية.
وذكر رئيس الحكومة أن المغرب خصص ثلثي استثماراته الأجنبية المباشرة لإفريقيا، كثاني أكبر مستثمر إفريقي بالقارة، وشجع القطاع الخاص المغربي على إنشاء مشاريع بإفريقيا ونقل التكنولوجيا ومواكبة الاقتصادات الإفريقية، معربا عن قناعة المغرب، باعتباره عضوا موقعا على اتفاقية إنشاء منطقة التجارة الحرة الإفريقية، بأن هذه الاتفاقية ستفتح آفاقا واعدة للاقتصادات الإفريقية، جاعلة من القارة أكبر أسواق التجارة الحرة في العالم.
وتوقف السيد العثماني، في كلمته أيضا، عند مكامن القوة في العمل متعدد الأطراف المتمثلة في قدرته على التأقلم مع المستجدات، وإدراجه لشراكات متلائمة لتسريع معالجة التحديات على مستويات مختلفة.
ويتمثل المستوى الأول، حسب السيد العثماني، في مواجهة التهديدات الأمنية، بما فيها الإرهاب، من خلال إرساء تعاون فعلي، عملياتي ومتعدد الأوجه، مستدلا، في هذا السياق، بعمل المنتدى العالمي ضد الإرهاب الذي يشارك المغرب رئاسته مع هولندا، منذ 2016، والذي سيستمر في تولي رئاسته المشتركة مع كندا ابتداء من 2020.
ونوه الى أن إسناد هذه الرئاسة المشتركة للمغرب، يشكل اعترافا بالمجهودات التي يبذلها في هذا المجال، حيث طور استراتيجية شاملة ومتعددة الأبعاد، تستنبط روحها من الإستراتيجية العالمية للأمم المتحدة ضد الإرهاب، وتدمج الجوانب الثقافية والدينية والاجتماعية والحقوقية والأمنية.
كما وضع المغرب، يضيف السيد العثماني، تجربته، بتوجیھات سامیة من جلالة الملك، أمیر المؤمنین، رهن إشارة أشقائه من الدول الصديقة الذين أبدوا رغبتهم في الاستفادة من الخبرة والممارسات المغربية الفضلى من أجل تأمين تكوين الأئمة تكوينا دينيا مفعما بمبادئ التعايش المشترك والانفتاح والوسطية والاعتدال.
أما المستوى الثاني، فيتعلق بمشاكل الهجرة التي تعرف تفاعلا وتنسيقا بين مختلف الدول، مبرزا أن المغرب كان سباقا على المستوى الإقليمي لتبني سياسة وطنية للهجرة، إنسانية في فلسفتها وشاملة في مضمونها وواقعية في طريقتها ومسؤولة في منهجيتها.
وذكر، في هذا الصدد، بالمصادقة بمدينة مراكش لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة، على العهد الدولي للهجرة شهر دجنبر 2018، كوثيقة مؤسِّسَة للحكامة في مجال الهجرة، لم يكن الهدف منها إعطاء دروس أو توجيه اتهامات، بقدر ما هو استحداث نظام تعددي يقوم على رؤية مشتركة يجد فيه كل طرف مصالحه، دون وصم عنصري أو صور نمطية أو مصالح ضيقة، ليصبح بذلك ميثاق مراكش مرجعية دولية للعمل متعدد الأطراف في مجال الهجرة يستوجب علينا جميعا العمل جاهدين على تفعيل مقتضياته.
وتابع السيد العثماني قائلا إن التزام المغرب بقضايا الهجرة تكرس باختیار جلالة الملك محمد السادس “قائدا إفریقيا” في قضایا الھجرة، وبالاتفاق بين المملكة المغربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي على إنشاء مرصد إفريقي للهجرة بمدينة الرباط لمتابعة الظاهرة بالتحليل الموضوعي واستقصاء تطوراتها المستقبلية بطرق علمية.
وعلى المستوى الثالث المتعلق بالتغيرات المناخية، سجل رئيس الحكومة أن احتضان المغرب لـ”قمة العمل” حول التغیرات المناخية سنة 2016، “كوب 22″، يشكل مثالا آخر لانخراط المغرب في التصدي لانعكاسات ھذه الظاھرة المھددة لمستقبل البشریة.
وذكر بأن المغرب انخرط منذ البدایة في دینامیة استشعار المخاطر البیئیة، حیث مثّل جلالة الملك محمد السادس، ولي العھد آنذاك، المغرب في قمة الأرض بِریو دي جانیرو في سنة 1992. ثم انعقدت برعایة ملكیة سامیة، الدورات السابعة والثانیة والعشرین لمؤتمر الأطراف على التوالي في سنتي 2001 و2016.
وأبرز أن ھذا الالتزام یروم إعادة تركیز وتعبئة جھود المجتمع الدولي لكسب رھاناته الكبرى وخاصة في القارة الإفریقیة، مشيرا إلى أن القمة الإفريقية الأولى المنعقدة على ھامش قمة “كوب 22” تحت الرئاسة الملكیة الفعلیة، أسفرت عن تأسیس وتفعیل ثلاث مبادرات متخصصة في المناخ لتمكین الدول الإفریقیة من التنسیق في أحسن الظروف لمواجھة التحدیات المناخیة.
وعلى المستوى الرابع، المتعلق بالتنمية البشرية والمستدامة، أوضح السيد العثماني أن النظام متعدد الأطراف المفتوح على الخصوصیات والذي يراعي اختلافات الدول والجھات، ینسجم كلیا مع أھداف التنمیة المستدامة معتبرا أن خطة 2030 للأمم المتحدة، تعتبر مقاربة مندمجة تمنح الفرص أمام الدول لتطویر خططھا الخاصة في إنجاز أھدافها التنموية، بما يعزز التعاون الفعال والملائم فيما بينها.
وقال إنه وعیا بأھمیة تحقیق تلك الأھداف على المستوى الوطني، أطلق جلالة الملك دينامية إعداد نموذج تنموي جدید يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمزيد من تقليص الفوارق بين الفئات والمناطق، وبناء اقتصاد أكثر تطورا يدخل المغرب نادي الدول الصاعدة.
كما ينادي المغرب، يضيف رئيس الحكومة، على المستوى القاري بتثمین مؤھلات إفریقیا لتحقیق أھداف التنمیة المستدامة، مجددا العزم على مضاعفة الجھود من أجل إرساء تعاون جنوب-جنوب فعال ومتضامن لفائدة التنمیة المشتركة للقارة .
من جهة أخرى، أكد السيد العثماني أن النظام متعدد الأطراف الذي يتطلع اليه المغرب يتمثل أيضا في تعزيز حفظ السلم والأمن الدوليين، مبرزا أن الحفاظ على السلم والاستقرار يعد بعدا راسخا في الرؤية الملكية التي تتجسد من خلال دعم تدابير عملية.
وذكر بأن المغرب التزم منذ استقلاله بدعم جهود الأمم المتحدة في حفظ السلام، من خلال المشاركة في 15 عملية لحفظ السلام في أربع قارات وفي ظروف صعبة، وهي المشاركة التي تعززت خلال العقدين الأخيرين بإرسال عدة وحدات من القوات المسلحة الملكية للمساهمة في عملیات حفظ السلام، خصوصا في جمھوریة الكونغو الديمقراطية وجمھوریة إفریقیا الوسطى.
وأضاف أن المغرب، وبنفس العزيمة، يدعم الانتقال، الذي طال انتظاره من مقاربة “رد الفعل” إلى مقاربة “العمل الوقائي”، ما یستوجب بذل جھود إضافية لبناء قدرات المنظمة في مجالي تقییم المخاطر والوقایة من النزاعات، منوها باختيار الأمین العام للأمم المتحدة لمبدأ الوقایة كأولویة، في إطار مجھوداته لتحسین أداء نشاطات المنظمة في مجال الإنذار المبكر قصد تفعيل مبدأ استدامة السلام.
واعتبر السيد العثماني أن هذا التوجه يتطلب إصلاحا بنیویا شاملا لاستراتیجیة وھیاكل الأمم المتحدة الخاصة بالأمن والسلم الدولیین، وھو الخیار الذي یحظى بدعم المملكة في شقیه التنظیمي والمالي، مؤكدا أن المغرب، وبصفته رئیسا لمجلس السلم والأمن للاتحاد الإفریقي خلال الشهر الجاري، لن یدخر جھدا لجعل الاهتمامات والانتظارات الإفريقية في صدارة برنامج الأمم المتحدة.
وبخصوص تطورات القضية الفلسطينية، شدد السيد العثماني على أن غیاب أفق لإعادة إطلاق مسلسل السلام الفلسطیني-الإسرائیلي أضحى مصدر انشغال بالغ للمملكة المغربیة، وسببا إضافیا لعدم الاستقرار والتوتر في الشرق الأوسط.
وجدد رئيس الحكومة التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الشعب الفلسطيني، “خصوصا وأن جلالة الملك محمد السادس يرأس لجنة القدس المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي”، معربا عن رفض المملكة “أي تغيير في طبيعة ووضعية المدينة المقدسة”، وكذا رفض سياسة الاستيطان. كما أكد قناعة المغرب بأنه “لا يمكن أن يكون هناك سلام عادل ودائم، دون ممارسة الشعب الفلسطیني حقه المشروع في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف”.
وفي سياق ذي صلة، قال السيد العثماني إن المغرب المعتز بهويته العريقة المتعددة الروافد، لم یتردد في التصدي لخطابات الكراھیة والإسلاموفوبيا التي تعد نواة لانتشار التطرف العنیف بمختلف أنواعه، مشيرا إلى أن المغرب، وبتبنٍ من 90 دولة عضو بالأمم المتحدة، بادر باقتراح قرار صادقت عليه الدورة الـ73 للجمعیة العامة بالإجماع تحت عنوان: “محاربة خطابات الكراھیة، وتعزیز الحوار بین الأدیان والثقافات”، حيث جسدت هذه المبادرة دور التعاون متعددة الأطراف في مد جسور التسامح والحوار بين الأديان والثقافات.
واستحضر، في هذا السياق، الزیارة التاریخیة لقداسة البابا فرانسيس الأول للمغرب، في مارس من هذه السنة، وما شكلته من رمزية قویة بشأن الإسھامات الوازنة للمغرب في مجال تعزیز الحوار الحضاري والدیني.
وأشار إلى أن أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، بصفته رئیسا للجنة القدس، المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي، وقداسة البابا قاما بالتوقیع على نداء مشترك حول القدس یؤكد المكانة الروحیة الخاصة للمدینة كملتقى للدیانات التوحیدیة ورمزا للتعایش والسلام والوئام.
وفي معرض تطرقه الى قضية الوحدة الترابية للمملكة، أكد رئيس الحكومة أن المغرب، ومن منطلق إيمانه الراسخ بحقوقه التاریخیة والقانونیة والسیادیة، یسعى بجدیة إلى إیجاد حل سیاسي ونھائي للنزاع الإقلیمي حول الصحراء المغربیة، “علما أن ھذه القضیة تندرج في إطار استكمال الوحدة الترابیة للمملكة، التي تعد سیادتھا الكاملة على أقالیمھا الجنوبیة مسألة غير قابلة للمساومة على الإطلاق”.
وقال إن المغرب يجدد التأكيد، من منبر الأمم المتحدة، على أن مبادرة الحكم الذاتي التي اعتبرها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منذ 2007، جادة وذات مصداقیة، ھي الحل لوضع حد نھائي لھذا النزاع المفتعل، مثمنا الجهود المبذولة من طرف الأمين العام للأمم المتحدة للدفع قدما بالحل السياسي الواقعي والعملي والدائم المبني على أساس التوافق كما أكد على ذلك قرار مجلس الأمن رقم 2468 المعتمد في شهر أبريل 2019.
وتطرق السيد العثماني كذلك إلى الوضعیة المؤلمة لساكنة مخیمات تندوف التي تظل مبعث انشغال بالغ للمغرب، مناشدا المنتظم الدولي مجددا العمل على حث البلد المضيف انطلاقا من مسؤولياته القانونية والإنسانية لتسجیل وإحصاء ساكنة ھذه المخیمات، وضمان احترام حقوقھا الأساسیة التي تتعرض لانتھاكات ممنهجة يوميا.
ودعا رئيس الحكومة إلى إمداد منظمة الامم المتحدة بالآلیات اللازمة لضمان تكیفھا المستمر مع واقع دولي معقد، وتعبئة الطاقات والقدرات لإصلاحھا وتعزیزھا كإطار للعمل متعدد الأطراف.
وخلص الى القول إنه بدل مهاجمة أسس النظام متعدد الأطراف بهدف إضعافه، من الضروري تقویته بمزيد من النقاش والتطوير، تمھیدا للانتقال إلى نظام عالمي أكثر عدلا وإنصافا وإنسانیة وتضامنا، “عالم لا یمكن تصوره انطلاقا من فهم سطحي للواقع، أو عبر تصور تقني للمخاطر، أو بفرض تصور أحادي لسلطة معیاریة، بل یمر عبر عمل متعدد الأطراف”.