لاصوت يعلو فوق صوت رفع المطالب، الممرضون يطالبون بالرفع من أجورهم، والأطباء احتجوا حتى فازوا بالزيادات، والمتعاقدون ينادون بتسوية وضعيتهم المادية والقانونية، وأصحاب المدارس الخصوصية يدافعون عن تخفيض الضرائب في حقهم لتوسيع قاعدة الأرباح، وجمعيات النقل يهددون باضرابات إذا لم يتوصلوا بالدعم المالي لنقل الأغيار، والشركات الكبرى تطالب بالامتيازات والتحفيزات.
الكل يطالب بالحقوق ولا أحد يريد أن يتحمل جزءا من ضريبة التضامن الوطني وتكبد نصيب من الأعباء في ظرف غير عادي.
للأسف الجميع ينظر للدولة كبقرة يجب حلبها في هذا الوقت بالضبط، وبأبشع الطرق ومهما كانت ظروفها الصحية، حتى إذا جفت المزرعة التي ترعى بها فما عليها ان تواجه مصيرها لوحدها بعيدا عنهم، إن اصحاب هذا الأسلوب النفعي والخطاب الأناني لا يهمه ان تفلس مؤسسات الدولة كما حدث مع لبنان التي لم تعد قادرة على القيام بوظائف الدولة البسيطة، ما يهمهم حقيقة هو استغلال الظروف القاهرة لتحقيق مطالبه وبعده فليأتي الطوفان.
فالغاية المادية عندهم تبرر الوسيلة، وتحقيق مطالبهم الفئوية لا يهم أن يأتي ولو عن طريق تنمية العجز في ميزانية الدولة ومضاعفة حجم ديونها أو التسبب في تقليص معدل النمو أو الرفع من نسبة التضخم.
إنه التجسيد الفعلي لمعنى الأنانية القبلية والنرجسية الفئوية، التي جعلت علاقة البعض بوطنهم محكومة بمبدأ النفعية والانتهازية، حيث تبدأ تلك العلاقة وتنتهي عند مصالحهم الذاتية والفئوية، فإذا ما وجدوا أن هذه المصالح قد تأثرت بظروف قاهرة خارجة عن الجميع، انساقوا إلى التلويح بالاحتجاجات والاضرابات وشل الحركة، وكأن هذا البلد ليس بلدهم ولا صلة لهم به.
فماذا ترك أصحاب المدارس الخاصة ومالكو شركات النقل الكبرى والفنادق المصنفة وأصحاب المأذونيات والشركات الكبرى والموظف الذي يحصل على مدخوله الشهري المستقر للمواطن البسيط المغلوب على أمره الذي لا يأمن على رزق يومه؟
بصراحة البلد في هاته الأيام ليست بحاجة لمن يطالبها بالحقوق خصوصا ممن وضعيتهم مستقرة أو قادرة على التحمل بل إلى أبناك وشركات ورجال أعمال يقفون إلى جانبها ويمارس واجباتهم بكل مواطنة، لأن المرحلة الحالية وما يصاحبها من مشكلات اقتصادية ومالية بغض النظر عما نختلف حوله من تفاصيل التدبير الحكومي في أمس الحاجة إلى عدد من القيم والمسلكيات التي تعزز حجم مسؤولية المواطنة وتكشف الأقنعة عن مدعي الدفاع عن حقوق الفئات المستغلين للوطن ماليا واقتصاديا.
فمتى يفهم هؤلاء أن الدولة ليس بقرة حلوباً نحلبها حتى يجف ضرعها أو شركة خاصة نتقاسمها حتى تفلس، أو رصيدا بنكيا نستهلكه حتى آخر سنتيم، أو سلعة نبيعها بأبخس الأسعار في سوق الأنانية الفئوية؟